إشراقات الضحـى - الجزء اﻷول

-A A +A

مقدمه
الحمد لله الذي وفقنا لأداء أفضل الطاعات ، ووفقنا على كيفية اكتساب أكمل السعادات ، وهدانا إلى قولنا : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " من كل المعاصي والمنكرات " بسم الله الرحمن الرحيم " نشرع في أداء كل الخيرات والمأمورات " الحمد لله "  الذي له ما في السماوات " رب العالمين " بحسب كل الذوات والصفات " الرحمن الرحيم " على أصحاب الحاجات وأرباب الضرورات " مالك يوم الدين " في إيصال الأبرار إلى الدرجات وإدخال الفجار في الدركات " إياك نعبد وإياك نستعين " في القيام بأداء جملة التكليفات " إهدنا الصراط المستقيم " بحسب كل أنواع الهدايات " صراط الذين أنعمت عليهم " في كل الحالات والمقامات " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " من أهل الجهالات والضلالات .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله المؤيد بأفضل المعجزات والآيات ، وعلى آله وصحبه بحسب تعاقب الآيات وسلم تسليما .
أرسله ربنا بكتابه المبين ، الفارق بين الشك واليقين الذي أعجزت الفصحاء معارضته ، وأخرست البلغاء مشاكلته فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
 سبحانة وتعالى جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها ، وأوامره هدى لمن استبصر، وشرح فيه واجبات الأحكام ، وفرق فيه بين الحلال والحرام ، وكرر فيه المواعظ والقصص للأفهام ، وضرب فيه الأمثال ، وقص فيه غيب الأخبار فقال تعالى : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " .
ثم جعل إلى رسوله " صلى الله عليه وسلم " بيان ما كان منه مجملا ، وتفسير ما كان منه مشكلا ، وتحقيق ما كان منه محتملا ; ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به ، ومنزلة التفويض إليه ; قال الله تعالى : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل : 44 " .
وجعل إلى العلماء بعد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " استنباط ما نبه على معانيه ، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد فيمتازوا بذلك عن غيرهم ، ويختصوا بثواب اجتهادهم ; قال الله تعالى : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " المجادلة : 11 . فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا ، واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا .
فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه ، وآذاننا موارد سنن نبيه ، وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما ; طالبين بذلك رضا رب العالمين ، ومتدرجين به إلى علم الملة والدين ،وجعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته ، ويتدبره حق تدبره ; ويقوم بقسطه ويوفي بشرطه ، ولا يلتمس الهدى في غيره ; وهدانا لأعلامه الظاهرة ، وأحكامه القاطعة الباهرة ، وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة ، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة .
 والحمد لله رب العالمين،  
                                                
بين يدي السورة الكريمة
 
يبدو أنه بين " الضحى " بنوره الصافي الرقيق ، و" الليل " بسكونه وقمره المنير ، وبين النفس البشرية ود قديم ، يستيقظ كلما التقي به ، كأنه عهد يتجدد بتجدد همسات الضحى للقلب ، وإيحاء ظلام الليل للنفس، فإذا جن الليل تهيم النفوس فيه فرحا بتجدد لقاء الله فيه ، لتسبح القلوب في فيض نور غامر من ليلة قمراء ، لا تطلب الآ رضى بديع السماوات ، وتهيئ نفسها لإستقبال جميل الرحمات والنفحات في ضحى من صنع الله وحده .
بهذ الآيات الكونية " الضحى والليل " يداعب الحق مشاعرا حزينة سكنت قلب رسول الله ، وأحاسيس بائسة ، وأنات ملكومة مكلومة ، نغصت عليه ليله وضحاه ، فواساه ربنا بأحرف من نور ، وكلمات لها في الكون ظل وإمتداد ، حين تتأملها وتتذوق معانيها لا شك أنها ستقودك حتما الي الإيمان بوحدانية الخالق ومبدع الكون سبحانه وتعالى   .
يا الله ... كيف نظمت هذه الأحرف وتلك الكلمات بديعة المعاني رشيقة المباني والتي يدرك جمالها كل قارئ فضلا عن متذوقي الجمال والتعبير والتصوير الفني .
 تأمل معي إن شئت أخي القارئ ، إنها الحياه تدب في أركان الصورة الكريمة ، لتبعث في نفس الوقت الحياة لضلوع النبي " صلى الله عليه وسلم " ، ذلك أنه عاش لآيام وهو يفتقد للذه الحياه التي سرعان ما عادت إليه عبر رسالة قوية واضحة " ما ودعك ربك وما قلى " رساله أقوى من أن تهمل وأوضح من أن تكتم لأنها رسالة تنبض بالحياة بكل ما فيها من معاني " ما ودعك ربك وما قلى" كما أنها جمله تطوي أى تصور وتمحوا أى ظن جفاء لرسوله " صلى الله عليه وسلم " بسرعه أشبه بكثير بحركة الليل والنهار وتعاقبهما .
أقرأ معي أخي الكريم ردد الآيات ، لتكتشف أنها ليست مجرد حروف مسطورة لأنها خرجت عن هذا الإطار لإطار صورة مرسومه رسمها القرآن ثم منحها قبلة الحياه ليتحول المعني الذهني لهيئة ، وتتحول الحالة النفسية للوحة أو مشهد ، تخيل معي ما تبرزة الآيات من صور ومشاهد " الليل بسكونه ، والضحي بضيائه " ، فلسنا الآن بصدد مجرد آيات يستمع إليها ، وإنما نحن أمام منظر يعرض ، ومسرح حقيقي تروح عليه نسمات الطبيبعه وتغدو، إنها لوحة كاملة فيها اللون زاهيا واضحا ، وفيها تصوير إشترك فيه الوصف والحوار ، وجرس الكلمات ، ونغم العبارات ، ذلك أن المعاني خلعت علي مشاهد الطبيعة في آيات القران عموما وعلى آيات سورتنا خصوصا الحياه ، حتي تراها أخي القارئ والمستمع معا في وقت واحد لأنها تصوير حي منتزع من عالم الأحياء ، الآ تشعر بهذا وأنت تقرأ القران وبالأخص صورتنا هذه ، الآ تشعر معي بجمال العرض ، وقوه الأداء ، وإيقاع العبارة ، وإيحاء الإشارة ،علي نحو فريد يغزو كل الحواس الإنسانية في ذات الوقت ، البصر بيديع الصور ، والأذان بشجي النغم ، والعقل بصحيح الفكر .
إن الآيات لم تترك للمستمع الأول " صلى الله عليه وسلم " فرصة للتفلت منها أو الإنصراف عنها ، لأنها أستولت على جميع حواسه ، إستيلاء لا يملك السامع معه من أمر نفسه شيئا أمام هذا النغم المتجدد الذي يسترعى الأسماع وسيتهوي النفوس .
بل إنني أذهب الى ما هو أبعد من هذا حين أقول : إن الصورة تبعث منها موسيقى تتجلى من أول لفظ " الضحى " حتى اللفظ الأخير " فحدث " وهكذا كل لفظة مفردة وكل أية على حده تستقل بجرسها " تقهر  ، تنهر ، فحدث " وتستقل بنغمها " سجى ، قلى ، الأولى ، فترضى ، فأوى ، فهدى ، فأغنى " .
" فإذا عدنا من جديد لقراءة آيات القرآن ، إكتشفنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية ، إنما هي ألفاظ جامدة بدون آلوان تصوير أو شخوص تعبر، سندرك حينها فقط بعضا من أسرار الإعجاز في تعبير القران الكريم " صفحة 34 التصوير الفني بتصرف
أخي القارئ ، أخي المستمع ، أخي المنصت ، عد الي الوراء ، وأغمض عينيك إن كنت تسمع ، أو ردد الآيات إن كنت تقرأ ، لأنك ستتذوق من بديع كلمات الله وصنعه .
وحينها فقط ستدرك أنك ، أننا بصدد ثروة شعورية ، وتعبيرية رشيقة ، تضيف الي رصيد البشرية من المشاعر والأحاسيس ، ما يخلع علي الألفاظ حياة وروح تتصل بروح الإنسان مباشرة ، من خلال هذا التعبير الحي البديع ، وهذا بخلاف الإيقاع الموسيقى الذي تعزفه الآيات علي مسامع القلوب والنفوس ، لتداعب بشكل مباشر أوتارها ، وفي بعض مشاهدها نداوة ، كندى الضحى ، ورقة لا تختلف كثيرا عن رقة القمر المضيئ  في الليل المظلم ، ورضى يفيض وطمأنينة تتجلى ، وسكينة تتنزل علي قلب خير البشر " صلي الله عليه وسلم "  .
" إنها أناقة واضحة في التعبير مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وإفتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي ، والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب النبي الحزين لإنقطاع الوحي عنه ، لإجتذاب حسه بشتي الألوان والإيقاعات ، وشتي المؤثرات ويتجلي هذا كله بصورة واضحة ، في تعبيره اللطيف حين يقول : " والضحى ، والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللأخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى .. الآيات " في ظلال القران – للشيخ سيد قطب الجزء السادس صفحة 3802 .
بينما يؤكد الدكتور محمد علي الصابوني : أن السورة الكريمة تضمنت وجوها من البيان والبديع كالطباق بين قول الله " الآخرة " و " الأولى " لأن المراد بالأولي الدنيا وهي تطابق الآخرة ، والمقابلة اللطيفة بين قوله " ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك عائلا فأغنى " وبين قوله " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر " وهي من لطائف علم البديع ، والجناس الناقص بين " تقهر ، وتنهر " لتغير الحرف الثاني من الكلمتين ، وحرف الراء من حروف الجهر وهو أسلوب من أساليب التنبيه ، كذلك السجع المرصع كأنه الدر المنظوم في عقد كريم " ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى " وخصت جملة الختام " وأما بنعمة ربك فحدث " بحرف مختلف تمييزاً لشكر هذه النعمة عما ذكر معها بمزيد الاهتمام وتأكيداً على التحدث بنعمة الله تعالى وما يصاحبه من خشوع لا رياء فيه ولا سمعة " بتصرف .
بينما يرى الدكتور محمود أحمد الزين " أن السورة تشبه من بعض الوجوه سورة الكوثر ، حيث تلتقيان في دفع الأذى عن رسول الله " صلى الله عليه وسلم " ، وفي تبشيره بالعطاء العظيم والمن عليه بذلك ، كما تحثه على الشكر، ثم تختلفان في التفصيل تفصيل البشائر وتفصيل دفع الهموم ، وتفصيل الشكر لله تعالى ، وتختلف معها في تقديم بعض المقاصد على بعض ، وفي الأساليب المؤدية للأغراض ، فبينما كان المقصود الأصلي في سورة الكوثر نفي البتر عنه " صلى الله عليه وسلم " غير مذكور صراحة بل مدلولاً عليه بطريق حصر البتر في شانئه " صلى الله عليه وسلم " ، كان نفي " التوديع والقلى " في سورة الضحى صريحاً كل الصراحة ، ومؤكداً بوجوه من التأكيد كثيرة كاليمين المكررة " والضحى والليل " ، وعموم النفي وتفصيله " ما ودعك – وما قلى " ، وسبب ذلك والله تعالى أعلم ، هو أن ما أراد المشركون تعييره به " صلى الله عليه وسلم " من خلو ذريته من الأولاد الذكور وهو ما يؤدي في نظرهم إلى انقطاع ذكره وبتره بعد الموت ، فكان الأبلغ والأنسب للمقام في سورة الكوثر أن ينسب البتر إلى شانئه صراحة وينتفي عنه " صلى الله عليه وسلم " إشارة لكي يكون البتر بعيداً عنه لفظاً كما هو بعيدا عنه حقيقة ، ثم جاء بنفيه الضمني بعد البشارة الكبرى لإدخال السرور بها على نفسه بعد إثبات البتر لشانئه " صلى الله عليه وسلم " عقوبة وتوبيخاً وتحقيراً .
" والقسم من أول " ألم يجدك " إلى " فأغنى " لا نجد ما يقابله في سورة الكوثر لأن سورة الكوثر لم يكن فيها خوف النبي " صلى الله عليه وسلم" من القطيعة فالعطاء فيها وهبي لا سبب له ، ولا يراد به إثبات تقدم العناية وإنما هو نفسه مذكور على سبيل الإكرام قبل الدفاع ، وهو في نفسه ومضمونه برهان على أنه ليس بأبتر " صلى الله عليه وسلم" محمود الزين – تفسير سورة الضحى
وفي حين كان الذي ذكره المشركون بمناسبة سورة الضحى وهو " القلى " والذي ذكره المحبون وهو " خشية التوديع " ، أمراً لا وجود له في الواقع لكن قد وجد أثره المحزن في نفسه " صلى الله عليه وسلم" فكان أجدر بالنفي الصريح الحاسم المؤكد ، " تفسير سورة الضحى
يقول الشنقيطي : وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها : إن التي قبلها نزلت في الصديق " وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى " الأعلي 17 - 21 ، بينما نزلت الضحى في الرسول "  صلى الله عليه وسلم " ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى " مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب ." أضواء البيان – تفسير سورة الضحى .

للحديث بقية - انتظروا الجزء الثاني قريبا