إشراقات الضحـى - الجزء الرابع واﻷخير

-A A +A

إشراقات الضحى
كتاب يرصد علاقة القران الكريم برسول الله " صلي الله عليه وسلم " من خلال أيات سورة الضحى ، التي أضافت لرصيد البشرية من المشاعر والأحاسيس ما يخلع علي الألفاظ حياة وروح تتصل بحياة الإنسان، ويسبغ على بعض مشاهدها نداوة كندى الضحى ، وقطرات كقطرات الندى، ورقة لا تختلف كثيرا عن رقة القمر في ليل السماء .
كما يرصد الكتاب سرا من أسرار علاقة شديدة الخصوصية بين خالق الضحى سبحانه وتعالي ، وبين خير البشر " صلى الله عليه وسلم " حيث يداعب الحق مشاعرا حزينة سكنت قلب رسول الله " صلي الله عليه وسلم "، وأحاسيس بائسة نغصت عليه ليله وضحاه ، فواساه ربنا بأحرف من نور، وكلمات لها في الكون ظل وإمتداد ، نزلت علي قلب رسول مشتاق ، إشتياق الزهور للندى ، حين تتأملها وتتذوق معانيها لاشك أنها ستقودك حتما الي الإيمان بوحدانية خالق الكون ومبدعه سبحانه وتعالى، والى سر من أسرار هذه العلاقة الربانية .

دعونا نواصل الجزء الرابع واﻷخير من هذا الكتاب :
===========================

ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى :
وفي هذه الآيات الثلاث ، يعدد سبحانه وتعالي علي رسول الله بعضا من نعمه حين ولد يتيما فأواة ، وضالا عن الدين فهداه إليه ، وفقيرا فأغناه عن الخلق .
ألم يجدك يتيما فأوى : ولد النبي " صلي الله عليه وسلم " يتيما حيث مات أبيه وهو في بطن أمه ، ثم توفيت أمه وهو ابن ست سنوات ، فانتقل الي كفالة جده عبد المطلب الي أن توفي عنه وهو ابن 8 سنوات ، فكفله عمه أبو طالب حتي أتته النبوة " صلى الله عليه وسلم " .
وخلال هذه الرحلة المباركة من عمر رسول الله " صلي الله عليه وسلم " لم يتعثر رسول الله في حياته قط ، ولم يسجد لصنم قط ، ولم يقع فيما وقع غيره من توقير لصنم أو شد رحال الي أوثان " صلي الله عليه وسلم "، والآية تحمل تذكيرا بنعمة الله عليه في صغره ليشكر ربه في كبره .
ألم يجدك يتيما فآوى ؟
يقول الإمام أبي البركات : " عدد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المرتقب من فضل الله علي ما سلف منه لئلا يتوقع الآ الحسنى وزيادة الخير ، فلا يضيق صدره ولا يكل فقال : " ألم يجدك " من الوجود الذي بمعني العلم ، والمعني ألم تكن يتيما حين مات أبواك فآواك الله الى عمك أبي طالب وضمك إليه حتى كفلك ورباك " تفسير القران الجليل صفحة 718  

ألم يجدك يتيما فآوى ؟
يقول الدكتور عبد الله شحاته : آواك اليه وعطف عليك القلوب حتي قلب عمك أبي طالب ، وهو علي غير دينك ." أهداف كل سورة ومقاصدها في القران – الجزء الرابع صفحة 200
أما الدكتور محمود الزين فيقول : " وهذا الاستفهام يستعمل فيما يعلم أن المسؤول مقر به ، وبه يكون الإثبات أقوى كأنه قيل إنك تعلم أن ربك وجدك يتيماً فآواك فعنايته بك وإيثاره لك وإحسانه إليك قديم منذ طفولتك ومن اعتنى بك منذ طفولتك وآثرك وأحسن إليك لا يمكن أن يقليك ولا يدعك ، ولفظ " اليتيم " جامع لوجوه الضعف والاحتياج ولذا جاء بعده لفظ " الإيواء " وهو جامع لوجوه الكفاية كأنه يقول اعتنى بك ورعاك وأنت أحوج ما تكون إلى ذلك ولا قدرة لك على شيء ودون أن تسأله ولا تعرف أن تسأله .
والتعبير بلفظ الوجود " ألم يجدك " يدل على أتم التحقق بهذه الصفة بخلاف لفظ العلم والرؤية ، وإسناد الإيواء إلى ضمير الرب سبحانه وتعالى دون ذكر الذين فعلوه ظاهراً أي " جده وعمه والسيدة خديجه " من بعدهم ، بيان لكون إيوائهما له " صلى الله عليه وسلم " كان بتدبير الله سبحانه وتعالى ، ودفع قلوبهما إليه ولولا ذلك لما فعلا ، وذلك يظهر عظم فضل الله تعالى عليه وعظم عنايته به ويؤكد أنه لا يمكن أن يكون منه توديع له ولا قلى ، وحذف ضمير الخطاب من الفعل الثاني " آوى " لدلالة الأول عليه " ألم يجدك " وللحفاظ على تناسب " آوى " مع ما تقدم من الألفاظ المختومة بالألف وليكون في اتحاد الجرس بهذا السجع استدعاء للانتباه ولإقبال النفس والعرب تحذف من الألفاظ ما علم بدون ذكره إلا يكون لذكره غرض آخر غير العلم به .
وقد عطفت جملة " آوى " على جملة " ألم يجدك " بالفاء وهي تدل على أن الثاني حصل بعد الأول مباشرة بلا مهلة وفي ذلك بيان كمال العناية به صلى الله عليه وسلم كأن ربه يقول له : ما تركك بلا إيواء لحظة واحدة " تفسير سورة الضحى .
ووجدك ضالا فهدى ! 
وهل ضل النبي صلي الله عليه وسلم عن قصد الحق يوما ، حتي يقول ربنا ووجدك ضالا فهدي ؟ وكيف يكون ذلك وقد أخبر سبحانه وتعالي في سورة النجم حين أقسم سبحانه بالنجم إذا هوي أن رسول الله " صلي الله عليه وسلم " ما ضل وما غوي حيث يقول : " والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوي وما ينطق عن الهوي إن هو الآ وحي يوحي " صلي الله عليه وسلم " ؟ سورة النجم
والحقيقة أن رسول الله كما أقسم سالفا لم يضل أبدا ، وإنما لم يهتدي الي معرفة الشريعة والدين فهداه الله إليهما ، " لأنه لايمكن حمله علي الضلال الذي يقابله الهدى لأن الأنبياء معصومون " صفوة التفاسير صفحة 573 .
ويؤيد ذلك قول الإمام الجلال : وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها " تفسير الجلالين 4 / 330
كقوله تعالي " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " الشوري 52  فهداك الله الي الشريعة الغراء ، لأنه لم يعدل عن الحق قيد أنملة " صلى الله عليه وسلم " .
يقول صاحب الظلال : " والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبري ، التي لا تعدلها منة ، وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق ، ومن التعب الذي لا يعدله تعب ، ولعلها كانت سببا مما كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم " يعانيه في هذه الفترة من إنقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب فجاءت هذه تذكره وتطمئنه علي أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه " في ظلال القران الجزء الأخير صفحة 3927 .
وآني لرسول الله أن يضل والقرآن الكريم من أسباب بعثته " صلي الله عليه وسلم " يقول سبحانه وتعالي : " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " البقرة 129.
كما يقول سبحانه وتعالي : " لقد من الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوعليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " آل عمران 164 .
يقول الدكتور محمود الزين " والآية تحمل تذكيرا للنبي بنعمة أخرى في مرحلة ما بعد الطفولة عند بداية سن الرجولة حين يحتاج الإنسان إلى معرفة طريق الرشاد ولا يجد أمامه من الناس من يرشده فالضلال هنا لا بمعنى الوقوع فيما لا يرضي الله ولا بمعنى الوقوع فيما كان عليه قومه من الشرك فذلك غير ممكن منه صلى الله عليه وسلم بعد ما شق صدره الشريف في الطفولة ونزع منه حظ الشيطان وملئ قلبه إيماناً وحكمة وإنما بمعنى الضلال الذي هو عدم معرفة الأعمال التي تطلب منه لعدم وجود الوحي حينئذ فألهمه الله ذلك .
وهذا هو المناسب لتفسير الهدى إذا قلنا إنه قبل الوحي فإن كان مراداً بالهدى الوحي كان المعنى هداك بالوحي فعلمت ما ينبغي لك من تفصيل أمور الإيمان والعمل بطاعته ، ويمكن الجمع بين المعنيين على أن الهدى كان في سن الشباب بالإلهام ثم كان بعد ذلك بالوحي والله أعلم .
وقد حذف ضمير المخاطب من هدى والأصل " هداك " لما تقدم في الفعل السابق " أوى " ، والعطف على الجملة السابقة ليكون الاستفهام التقريري داخلاً على الجملتين كأنه قيل له ثانية إنك تعلم أنه وجدك ضالاً فهداك فيكون مضمون الثانية أيضاً دليلاً على كمال عناية ربه به " صلى الله عليه وسلم " وعلى أنه لا يمكن أن يودعه أو يقلوه " تفسير سورة الضحى .
يقول الشنقيطي : الضلال : يكون حسا ومعنى ، فالأول : كمن تاه في طريق يسلكه ، والثاني : كمن ترك الحق فلم يتبعه ، فقال قوم : المراد هنا هو الضلال بالمعني الأول ، حيث قيل أنه " صلى الله عليه وسلم " قد ضل في شعب من شعاب مكة ، وقيل ضل من عمه في طريقه إلى بلاد الشام . ونحو ذلك .
وقال آخرون : إنما هو عبارة عن عدم التعليم أولا ، ثم منحه من العلم مما لم يكن يعلم ، كقوله " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " الشورى 52." أضواء البيان
وهو ما أميل إليه ، لأنه قبل النبوة ، ما كان لرسول الله أن يعرف ، بدليل أنه " صلى الله عليه وسلم " عند نزول الوحي عليه في المرة الأولي ذهب مسرعا الي بيته وهو يردد : دسروني دسروني زملوني زملوني ، فأنزل الله قوله : " يا أيها المزمل " و" يا أيها المدثر " ولا حرج في ذلك، فليس فيه ما يشينه " صلى الله عليه وسلم " .
ووجدك عائلا فأغنى :
عائلا : أي فقيرا ، والمعني : أغناك عن سؤال الأخرين فلم تشعر بفقر أو تتطلع الي ما في يد غيرك من الناس ، " كما أغناك بكسبك وبمال أهل بيتك " خديجة رضي الله عنها " وبما أفاء الله عليك من الربح ويسر لك من أسباب التجارة ، عن أن تحس الفقر ، وبما أفاء الله عليك من الغنائم فيما بعد " في ظلال القران صفحة 3927 بتصرف .
وكل ما يسبق ذكره من قوله " ألم يجدك يتيما فآوي، ووجدك ضالا فهدي ، ووجدك عائلا فأغني " إنما هو تذكير بنعم الله علي رسوله وكلها نعم تتعلق بفلسفة الإيواء " ، فآوي ، وهدي ، وأغني " كلها نعم تتعلق بإيواء الله لرسوله " صلى الله عليه وسلم " وكأن الله أراد أن يوقظ فكرة الإيواء في قلب وعقل رسول الله حتي إذا طالبه برد الجميل لمن هم علي شاكلته كما سيأتي حن رسول الله إليهم ففاض عليهم حبا ووفاء لعهد الله وردا لجميل صنيعه إليه .
ووجدك عائلاً فأغنى ..  كما انها تذكير جديد بنعمة أخرى وبرهان آخر على العناية المتواصلة به صلى الله عليه وسلم مما يدل على أنه لا يمكن أن يودعه ربه ولا يقلوه والعائل هو " الفقير" والغني هو : من لا يحتاج إلى غيره ، وهو في العرف من كان ذا مال كثير ، وأغناك جعلك غنياً ، وقد أسند الله تعالى فعل الإغناء إلى نفسه دون ذكر البشر والأسباب إظهاراً لمنته تعالى عليه لأن ذلك مع كونه هو الحقيقة ، يناسب أن يكون ذلك برهاناً على كمال عنايته به ، وعلى أن هذه العناية تعني أنه لا يمكن أن يودعه أو يقلوه ، وفي حذف مفعول " أغنى " مثل ما تقدم في الفعلين السابقين من الفائدة ، وبهذه الجمل الثلاث كمل ظهور ما سبق من الامتنان مع ما فيه من تمام البرهان على انتفاء التوديع والقلى في الماضي والحاضر والمستقبل وكل الأزمان " تفسير سورة الضحى – بتصرف .
يقول الإمام الفخر : العائل هو ذو العيلة ، لقوله :" ألا تعولوا " النساء 3 ويدل عليه قوله تعالى " وإن خفتم عيلة " التوبة : 28 ثم أطلق العائل على الفقير ، وإن لم يكن له عيال ، والمشهور أن المراد هو الفقير ، ويدل عليه ما روي أنه في مصحف عبد الله : " ووجدك عديما " وقرئ "عيلا".
 ويري الإمام الفخر في كيفية الإغناء عدة وجوه :
الأول : أن الله تعالى أغناه بتربية أبي طالب ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه الله بمال خديجة ، ولما اختل ذلك أغناه الله بمال أبي بكر ، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار ، ثم أمره بالجهاد ، وأغناه بالغنائم ، وإن كان إنما حصل بعد نزول هذه السورة ، لكن لما كان ذلك معلوم الوقوع كان كالواقع ، روي أنه عليه السلام : " دخل على خديجة وهو مغموم ، فقالت له ما لك ، فقال : الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحي منك ، وإن لم أبذل أخاف الله ، فدعت قريشا وفيهم الصديق ، قال الصديق : فأخرجت دنانير وصبتها حتى بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي لكثرة المال ، ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه ، وإن شاء أمسكه " .
وهذه القصة وإن لم يذكر سندها ، فليس بغريب على خديجة - رضي الله عنها - أن تفعل ذلك له " صلى الله عليه وسلم " ، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك ، حين دخلت معه الشعب فتركت مالها ، واختارت مشاركته " صلى الله عليه وسلم " لما هو فيه من ضيق العيش ، حتى أكلوا ورق الشجر ، وأموالها طائلة في بيتها .
ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار ، لقد قدم المدينة تاركا ماله ومال خديجة ، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد ، وكان بعد ذلك فيء بني النضير ، وكان يقضي الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ، لا يوقد في بيته " صلى الله عليه وسلم "  نار ، إنما هما الأسودان : التمر والماء .
ثم جاءت غنائم حنين ، فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر ، ورجع بدون شيء ، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله ، وأخيرا توفي " صلى الله عليه وسلم " ودرعه مرهونة في آصع من شعير .
الثاني : أغناه بأصحابه كانوا يعبدون الله سرا حتى قال عمر حين أسلم : ابرز أتعبد اللات جهرا ونعبد الله سرا ! فقال عليه السلام : حتى تكثر الأصحاب ، فقال حسبك الله وأنا فقال تعالى :" حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " الأنفال : 64 ، فأغناه الله بمال أبي بكر ، وبهيبة عمر " .
الثالث : أغناك بالقناعة فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب ، لا تجد في قلبك سوى ربك ، فربك غني عن الأشياء لا بها ، وأنت بقناعتك استغنيت عن الأشياء ، وإن الغنى الأعلى الغنى عن الشيء لا به ، ومن ذلك أنه عليه السلام خير بين الغنى والفقر ، فاختار الفقر .
الرابع : كنت عائلا عن البراهين والحجج ، فأنزل الله عليك القرآن ، وعلمك ما لم تكن تعلم فأغناك .
الخامس : أنت كنت كثير العيال وهم الأمة ، فكفاك . وقيل : فأغناهم بك لأنهم فقراء بسبب جهلهم ، وأنت صاحب العلم ، فهداهم على يدك .
ووجدك عائلا فأغنى .. وهو يدل على تجدد الغني واستمراره ، والواقع أن غناه " صلى الله عليه وسلم " كان قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس ، ويكفي أنه " صلى الله عليه وسلم " أجود الناس ، وكان إذا لقيه جبريل لدارسه القرآن كان كالريح المرسلة ، فكان القدوة في  الحالتين ، في حالي الفقر والغنى إن قل ماله صبر ، وإن كثر بذل وشكر .
استغن ما أغناك ربك بالغنى     وإذا تصبك خصاصة فتجمل
ومما يدل على عظم عطاء الله له مما فاق كل عطاء . قوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " الحجر 87  ، ثم قال : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين " 88 الحجر .
وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغني الشاكر ، ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله " صلى الله عليه وسلم " كلا الأمرين ; ليرسم القدوة المثلى في الحالتين " أضواء البيان 563 .
ثم عدد الله علي رسولنا هذه النعم الثلاثة ليوصيه بمثلها في مقابلها حيث يقول سبحانه وتعالي : " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث " .
وهي توجيهات ربانية لرسول الله إبتدأ ولكل مسلم يأتي من بعده " صلى الله عليه وسلم " ولكل من تلي ، أو إستمع أوأنصت لآيات الذكر الحكيم ، فإكرام اليتيم والإحسان إليه فرض عين علي كل إنسان فلا تغلبه علي ماله وحقه لضعفه فتسلبه إياه وحسبك أن الله أختار لرسوله اليتم ليعرف قدر اليتيم فلا يغفل عن حقه في الإصلاح أو الدعم أو المساندة . 
ويتسائل الإمام الفخر : وما الحكمة في أنه تعالي أختار له اليتم ثم يجيب قائلا : فيه وجوه أحدها : أن يعرف قدر اليتامى فيقوم بحقهم وصلاح أمرهم ، ومن ذلك كان يوسف عليه السلام لا يشبع فقيل له في ذلك : فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع .
وثانيها : ليكون اليتيم مشاركا له في الاسم فيكرم لأجل ذلك ، ومن ذلك قال عليه السلام : " إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه ، ووسعوا له في المجلس " .
وثالثها : أن من كان له أب أو أم كان اعتماده عليهما ، فسلب عنه الوالدان حتى لا يعتمد من أول صباه إلى آخر عمره على أحد سوى الله ، فيصير في طفولته متشبها بإبراهيم عليه السلام في قوله : حسبي من سؤالي ، علمه بحالي ، وكجواب مريم : " أنى لك هذا قالت هو من عند الله " آل عمران : 37 .
ورابعها : أن العادة جارية بأن اليتيم لا تخفى عيوبه بل تظهر ، وربما زادوا على الموجود فاختار تعالى له اليتم ، ليتأمل كل وأحد في أحواله ، ثم لا يجدوا عليه عيبا فيتفقون على نزاهته ، فإذا اختاره الله للرسالة لم يجدوا عليه مطعنا .
وخامسها : جعله يتيما ليعلم فضل الله عليه لأن الذي له أب ، فإن أباه يسعى في تعليمه وتأديبه .
وسادسها : أن اليتم والفقر نقص في حق الخلق ، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام مع هذين الوصفين أكرم الخلق ، كان ذلك قلبا للعادة ، فكان من جنس المعجزات " التفسير الكبير المجلد 18 تفسير سورة الضحى .
فأما اليتيم فلا تقهر .. وقيل : قرئ بالكاف : " تكهر " ، فقالوا : هو بمعنى القهر إلا أنه أشد ، وقيل : هو بمعنى عبوسة الوجه ، والمعنى أعم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ، ومن الجبن والبخل ، ومن غلبة الدين وقهر الرجال " فالقهر أعم من ذلك .
يقول الفخر : والتفسير الثاني لليتيم : أنه من قولهم درة يتيمة ، والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير " التفسير الكبير- تفسير سورة الضحى. 
وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم ، والتي زادت على العشرين موضعا ، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه ، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه ، وفي حياته بشكل عام.
أما دفع المضار عنه في ماله : فقد ورد في قوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هى أحسن " جاءت مرتين في سورة " الأنعام " والأخرى في سورة " الإسراء " آية 34 ، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة " الأنعام " ، بدأت بقوله تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " آية 151 .
وذكر قتل الولد ، وقربان الفواحش ، وقتل النفس ، ثم مال اليتيم : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هى أحسن " ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلا بالتي هي أحسن ، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " النساء آيه 6 .
وقد نص الفقهاء على أن من ولى مال اليتيم واستحق أجرا ، فله الأقل من أحد أمرين : إما نفقته في نفسه ، وإما أجرته على عمله ، أي : إن كان العمل يستحق أجرة ألف جنيها ، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط ، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة جنيها ، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط ، حفظا لمال اليتيم  .
وبعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق بسيطة من باب التحيل أو نحوه ، من استبدال شيء مكان شيء ، فيكون طريقا لاستبدال طيب بخبيث ، فجاء قوله تعالى " وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " سورة النساء 2
و" الحوب " هو أعظم الذنب ، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله بخبيث مال الولي أو غيره حسدا له على ماله ، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير ، وهذا منعا للتحايل ، وسدا للذرائع، وحفظا لماله ، ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" النساء 10.
وقد اتفق العلماء : أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت ، سواء كان بأكل حقيقة ، أو باختلاس ، أو بإحراق ، أو إغراق ، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق ، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه ، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه ، فهو تفويت عليه وكل ذلك حفظا لماله .
وأخيرا ، فإذا تم الحفاظ على ماله ولم يقربه إلا بالتي هي أحسن ، ولم يبدله بغيره أقل منه ، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه ، ولم يعتدي  عليه بأي إتلاف كان محفوظا له ، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده ، فيأتي قوله تعالى " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " سورة النساء أية 6  .
ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " النساء 6 ، أي ،  حتى لا تكون مناكرة فيما بعد ، وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله : " وكفى بالله حسيبا " وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه ، ومهما يكن من دقة الحساب ، فالله سيحاسب عنه ، وكفى بالله حسيبا ، وهذا كله في حفظ ماله .
أما جلب المصالح ، فإننا نجد فيها أولا جعله مع الوالدين والأقربين في عدة مواطن ، منها قوله تعالى " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى " البقرة 215 .
ومنها قوله " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين " البقرة  177  إلى آخر الآية .
ومنها : ما أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيبا في التركة في قوله " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " النساء 8 ، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى ، ومرة أخرى يجعل لهم نصيبا فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله " الأنفال 41 .
وفي سورة " الحشر " في قوله تعالى " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " الآية  7 .
فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول الله " صلى الله عليه وسلم "، وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار ، وسببا للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا " الإنسان 5 .
وذكر أفعالهم التي منها : أنهم " يوفون بالنذر " الإنسان 7 ثم  إنهم : " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا "، وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله " فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة " البلد الآية 11 - 15 .
وحسبك أن الله ساق الخضر وموسى - عليهما السلام - ليقيما جدارا ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما ، في قوله تعالى " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري" الكهف 82 .
كذلك عدم مساءته في نفسه ، لقوله تعالى " أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين" الماعون 1 - 3  .
ومنها قوله " كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين " الفجر 17 - 18 ، فقدم إكرامه إشارة له .
وفي الإحسان إليه ، منه قوله تعالى " لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى " البقرة 83 ، فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى .
ومنها سؤال وجوابه من الله تعالى " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " البقرة 220 ، والمعنى : تعاملونهم كما تعاملون الإخوان ، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف ولذا قال تعالى " والله يعلم المفسد من المصلح ".  
وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح : إشعار بشدة التحذير من الإفساد في معاملته ، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا "النساء  9 .
والمعنى : فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاما من بعدهم ، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم ، وهذه غاية درجات العناية والرعاية .
تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه ، مما يفصل مجمل قوله : فأما اليتيم فلا تقهر .. لا بكلمة غير سديدة ، ولا بحرمانه من شيء يحتاجه ، ولا بإتلاف ماله ، ولا بالتحايل على أكله وإضاعته ، ولا بشيئ في نفسه ولا في ماله .
والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه ، حيث كان " صلى الله عليه وسلم " أرحم الناس به وأشفقهم عليه ، حتى قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين " ، يشير إلى السبابة والوسطى وفرج بينهما، رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي .
وعند ابن ماجه ، عن أبي هريرة : أنه " صلى الله عليه وسلم " قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم ، يحسن إليه . وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " ، بل إن الله جعل حسن معاملة اليتيم ، دواء لقسوة القلوب ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا شكا إلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم " قسوة قلبه ، فقال : " امسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين " صدق رسول الله " .
وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي ، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم ، وأرأفهم بعباد الله ، الموصوف بقوله تعالى " بالمؤمنين رءوف رحيم " التوبة  128  وبقوله "  وإنك لعلى خلق عظيم " القلم  4 ، ليكون مثالا مثاليا في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها . 
وحقيقة هذا التشريع الإلهي الحكيم منذ أربعة عشر قرنا ، تأتي فوق كل ما تتطلع إليه آمال الحضارات الإنسانية كلها ، مما يحقق كمال التكامل الاجتماعي بأبهى معانيه ، المنوه عنه في الآية الكريمة " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " النساء 9 ، فجعل كافل اليتيم اليوم ، إنما يعمل لما قد يأتي بعد لو تركو ذرية ضعافا ، وعبر هنا عن الأيتام بلازمهم ، وهو الضعف إبرازا لحاجة اليتيم إلى الإحسان بسبب ضعفه ، فيكون موضع خوفهم عليهم لضعفهم ، فيعاملوهم بما هم أهله ، وبما يحبوا أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم .
وهكذا تضع الآية أمامنا تكافلا اجتماعيا في كفالة اليتيم ، بل إن اليتيم نفسه ، فإنه يتيم اليوم ورجل الغد ، فكما تحسن إليه يحسن هو إلى أيتامك من بعدك ، وكما تدين تدان ، فإن كان خيرا كان الخير بالخير والبادئ أكرم، ومع هذا الحق المتبادل ، فإن الإسلام يحث عليه ويعني به ، ورغب في الإحسان إليه وأجزل المثوبة عليه ، وحذر من الإساءة عليه ، وشدد العقوبة فيه ، وقد يكون فيما أوردناه إطالة ، ولكنه وفاء بحق اليتيم أولا ، وتأثر بكثرة ما يلاقيه اليتيم ثانيا .
يقول الشنقيطي : " وفي السياق لطيفة دقيقة ، وهي معرض التقرير ، الذي جاء بكاف الخطاب : ألم يجدك يتيما ، ووجدك ضالا ، ألم يجدك عائلا ، لتأكيد التقرير ، لم يسند اليتم ولا الإضلال ولا الفقر لله ، مع أن كله من الله ، فهو الذي أوقع عليه اليتم ،وذلك لما فيه من إيلام له ، ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب .
وفي تعداد النعم " فآوى ، فهدى ، فأغنى " أسند كله إلى ضمير المنعم ، ولم يبرز ضمير الخطاب ، قال المفسرون : لمراعاة رءوس الآي والفواصل ، لكن الذي يظهر - والله تعالى أعلي وأعلم  أنه لما كان فيه امتنان ، وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة ، بينما أبرزه في قوله تعالى : " ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك " و " ورفعنا لك ذكرك " لأنها نعم معنوية ، انفرد بها رسول الله " صلى الله عليه وسلم " .
ويتسائل الإمام فخر الدين الرازي قائلا : كيف يحسن من الجود أن يمن بنعمة فيقول :" ألم يجدك يتيما فآوى " ؟ والذي يؤكد هذا السؤال أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال : " ألم نربك فينا وليدا " الشعراء : 18 في معرض الذم لفرعون ، فما كان مذموما من فرعون كيف يحسن من الله ؟
ثم يجيب قائلا والجواب : أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك أن يقوي قلبه ويعده بدوام النعمة ، وبهذا يظهر الفرق بين هذا الامتنان وبين امتنان فرعون ، لأن امتنان فرعون محبط ، لأن الغرض " ألم نربك فينا وليدا ".. فما بالك لا تخدمني ، بينما امتنان الله جاء لإعلان زيادة نعمته عليه " صلى الله عليه وسلم " ، كأنه يقول له : ما لك تقطع عني رجاءك ألست شرعت في تربيتك ، أتظنني تاركا لما صنعت ، بل لا بد وأن أتمم عليك وعلى أمتك النعمة ، كما قال تعالي : " ولأتم نعمتي عليكم " البقرة 150 ، فما أعظم الفرق بين مآن هو الله ، وبين مان هو فرعون، ونظيره ما قاله بعضهم في قول الله :" ثلاثة رابعهم كلبهم " الكهف : 22 في تلك الأمة ، وفي أمة محمد : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " المجادلة آيه 7 فشتان بين أمة رابعهم كلبهم ، وبين أمة رابعهم ربهم .
ثم يسئل الإمام الفخر من جديد : إنه تعالى من عليه بثلاثة أشياء ، ثم أمره بأن يذكر نعمة ربه ، فما وجه المناسبة بين هذه الأشياء ؟
ويجيب قائلا: وجه المناسبة أن نقول : قضاء الدين واجب ، ثم الدين نوعان مالي وإنعامي ، والثاني أقوى وجوبا ، لأن المالي قد يسقط بالإبراء ، بينما الثاني يتأكد بالإبراء ، والمالي يقضى مرة فينجو الإنسان منه ، والثاني يجب عليك قضاؤه طول عمرك ، ثم إذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم هو مملوك ، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم العظيم ، فكأن العبد يقول : إلهي أخرجتني من العدم إلى الوجود بشرا سويا ، تستر علي ذنوبي بستر عفوك ، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حد لها ولا حصر ؟ فيقول تعالى : الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبيدي ما فعلته في حقك ، كنت يتيما فآويتك فافعل في حق الأيتام ذلك ، وكنت ضالا فهديتك فافعل في حق عبيدي ذلك ، وكنت عائلا فأغنيتك ، فافعل في حق عبيدي ذلك ، ثم إن فعلت كل ذلك فاعلم أنك إنما فعلتها بتوفيقي لك ، ولطفي وإرشادي ، فكن أبدا ذاكرا لهذه النعم والألطاف " التفسير الكبير بتصرف .
وأما السائل فلا تنهر :
والسائل هو المحتاج المستجدي فلا تزجره ، وإنما تخاطبه بلطف ولين وقل له قولا معروفا أوأطلب له المغفرة فذلك خير من صدقة يتبعها أذى ، يقول سبحانه : " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لايتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ، " البقرة 262 ، 263 .
قال قتادة رد المسكين برفق ولين ، لأن المن والإيذاء يبطلان الصدقه ، حيث يقول سبحانه وتعالي : " يا أيها الذين أمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " البقرة 264 .
فلا أقل أن تدعوا للسائل والمحتاج ، كأن تقول له : " سهل الله لك ، أو حفظك الله " وغيره من الدعوات الطيبة التي تحفظ ماء الوجه ، وامتثالا لقوله " فلا تنهر " ولكن تعطيه أو ترده ردا لينا .
يقول الشنقيطي : وقوله " وأما السائل فلا تنهر " ، قالوا : السائل : الفقير والمحتاج ، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله " ووجدك عائلا فأغنى " أي : فكما أغناك الله وبدون سؤال فإذا أتاك سائل فلا تنهره ، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن .
ومعلوم : أن الجواب بلطف ، قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعدا حسنا لحين ميسرة ; أخذا من قوله تعالى " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا " الإسراء 28 .
وقيل : السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد ، وقالوا هذا مقابل قوله " ووجدك ضالا فهدى " أي : لا تنهر مستغنيا ولا مسترشدا ، كقوله تعالى " عبس وتولى أن جاءه الأعمى " عبس.
وقد كان " صلى الله عليه وسلم " رحيما شفيقا على الجاهل حتى يتعلم ، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة ، فقال لهم : " لا تزجروه " إلى أن قال الأعرابي : اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا أبدا " وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ، ويقول : " هلكت وأهلكت ، واقعت أهلي في رمضان ، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقا من طعامه يكفر به عن ذنبه ، فقال : أعلى أفقر منا يا رسول الله ؟ فقال النبي : قم فأطعمه أهلك " .
وقد كان "صلى الله عليه وسلم " يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه ، وهو يصبر لها و يجيب على أسئلتها .
وقد حث " صلى الله عليه وسلم " على إكرام طالب العلم ، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضى بما يصنع . أضواء البيان
وأما بنعمة ربك فحدث :
يقول الدكتور محمود الزين " هذا القسم من سورة الضحى يقابل من سورة الكوثر الآية الثانية " فصل لربك وانحر " جاء هناك وسط السورة ، وجاء هنا في آخرها ، لأن حق الشكر أن يأتي الأمر به بعد ذكر النعمة ،فذكر هناك بعد إعطاء الكوثر، ثم جاء بعده عقوبة الخصم المؤذي ، أما هنا فكل ما ذكر من قبل في السورة هو النعم والتي منها نعم موهوبة كما ورد في أول السورة " ما ودعك ربك وما قلى " وهي استمرار لما مضى ومنها نعم موعودة " وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى " ومنها نعم سابقة تذكر على سبيل بيان قدم العناية به " صلى الله عليه وسلم " ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى " فالرعاية والعناية والمودة الإلهية تحوطه " صلى الله عليه وسلم " في كل زمان ومكان ، وقد ناسبت حكمة الله بين الجمل الأولى الثلاث في المعنى بأنها نعم يؤكد بعضها بعضاً والجميع يؤدي معنى دوام العناية وناسبت بينها لفظاً فهي مسجوعة كلها بحرف الألف والسجع يزيد الكلام ترابطاً إذ كلما تكرر الحرف الموحد ذكر سامعيه بما قبله ويزيد الكلام حسن الموقع في النفس بوحدة النعمة ، وإذا كان ما مضى من أول السورة كله نعم كان ذلك مقتضياً تأخير الأمر بالشكر" تفسير سورة الضحى .
وأما بنعمة ربك فحدث :
والتحدث بنعمة الله شكره تعالي ، وقيل النعمة هنا هي القرآن الكريم ، الذي إنفطر وانقطع عن رسول الله فكان عود نزول القران بسورة الضحي علي قلب رسول الله " صلى الله عليه وسلم " بمثابة النعمة التي تستحق التحديث بها ، وشكره لنعمة القرأن حسبما ذكر الإمام الغزالي يكون بإستغلالها فيما خلقت له " من خلال إرشاد العباد الي الصراط المستقيم والطريق القويم .
يقول أبي البركات : " أي حدث بالنبوة التي آتاك الله وهي من أجل النعم ، والصحيح أنها تعم جميع نعم الله عليه ويدخل تحته تعليم القران والشرائع " تفسير القرآن الجليل صفحة 719 الجزء الثالث طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010 
وأما بنعمة ربك فحدث ..  قال مجاهد والكلبي : معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به ، وقال محمد بن إسحاق : هي النبوة . وقال آخرون : هي عموم في جميع النعم .
وقال الزمخشري : التحديث بالنعم : شكرها وإشاعتها ، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك.
أما صاحب البحر المحيط فيقول :" يظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة أمره بثلاثة : فذكر اليتيم أولا وهي البداية ، ثم ذكر السائل ثانيا وهو العائل ، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية ، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة ، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة ، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف ، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة ، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف ، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف ، فهما مقصدان في الخطاب " التفسير الكبير المسمى البحر المحيط لأثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي تفسير سورة الضحى
يقول الدكتور محمود الزين : " والأمر بالشكر هنا جاء مختلفاً عن الأمر بالشكر في سورة الكوثر ففي الكوثر جاء موجزاً في ثلاث كلمات " فصل لربك وانحر " بينما جاء هنا مفصلاً في ثلاث جمل وكل واحدة منهن مصدرة بأداة التفضيل فهذه الزيادة في وجوه الشكر وتأكيدها تناسب تعدد النعم وتنوعها ودوامها ، ثم صدر طلب الشكر بالفاء الدالة على الترتيب لبيان أن تلك النعم تستوجب هذا الشكر وجاءت الأوامر الثلاثة مصدرة بأداة التفصيل " أما " لبيان الأهمية والعناية بكل منها على انفراد وتخصيص ، ثم أكد ذلك الطلب أكثر بتقديم المفعولات في الجمل الثلاث أيضاً " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث " ، وجاء لفظ اليتيم ولفظ السائل معرفين بالألف واللام وذلك يعني عموم كل يتيم وسائل وإن كان اللفظ مفرداً كالعموم في قوله تعالى : " إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا " ، وكذلك الإضافة في قوله " نعمة ربك " دالة على عموم كل نعمة من ربه سبحانه وتعالى فكل ذلك حقه أن يشكر ، ويلاحظ أن الأمر بالشكر في المواضع الثلاثة ليس بأداء عبادة لله تعالى من صلاة وصوم وصدقة ونحوها ، وإنما هو نهي عن إيذاء اليتيم بالقهر والسائل بالنهر وعن تضييع حق المنعم بكتمان ذكر النعمة ، وهذه الثلاثة هي أقل ما يمكن من شكر النعم الثلاث التي تقابلها فيما سبق من ذكر عناية الله تعالى بحبيبه " صلى الله عليه وسلم " ، ولم يقل سبحانه وتعالى ، أكرم اليتيم وأحسن إلى السائل ، مع أنه مفهوم من الكلام باعتبار أن النهي عن الفعل أمر بضده ، وسبب ذلك والله أعلم هو توجيه العناية إلى ما هو أهم لليتيم والسائل وهو دفع الأذى عنهم .
وجاءت الجملة الأخيرة تصرح بطلب التحدث بالنعمة صراحة لا بطريق الاستنتاج من النهي ، بل على العكس يفهم منها النهي عن الكتمان استنتاجاً ، وسبب ذلك والله تعالى أعلم ، هو أن الإنعام  عليه " صلى الله عليه وسلم " وإن كان يشمل النعم كلها - فأهم ما كان من الإنعام هو إنزال القرآن عليه " صلى الله عليه وسلم " ، المنقذ من الحيرة ، وهو النعمة المتجددة بعد تأخر مجيء الوحي ، وهو المقصود الأعظم ، والتحديث بذلك هو أهم مهمات حياته " صلى الله عليه وسلم " .
يقول الشنقيطي : وقيل التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية أوحديث ، والنعمة هنا عامة ; لتنكيرها وإضافتها ، كما في قوله تعالى " وما بكم من نعمة فمن الله" النحل 53  ، أي : كل نعمة ، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر أو هو أولى بها ، أو هو أعظمها ; لقوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " المائدة  3 ، فقال : " نعمتي " ، وهنا " نعمة ربك " أضواء البيان.
فاللهم أجزي عنا رسول الله خير ما جزيت نبيا عن أمته ، وصلي اللهم وسلم وبارك علي المبعوث رحمة للعالمين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين .
 

إنتهي والله أعلى وأعلم
 
كتبه بتوفيق من الله وهدايته
 أيمن محيى جابر علي حمزة
ليسانس أصول الدين – قسم التفسير وعلوم القران الكريم
جامعة الأزهر الشريف
عضو نقابة الصحفيين المصرية
صحفي بجريدة المصري اليوم
 
صباح يوم الجمعة الموافق 3 من يناير 2014 ميلادية
غرة شهر ربيع أول 1435 من هجرة رسول الله
" صلي الله عليه وسلم"