الكائن البشروبهيمي

-A A +A

قال تعالى في محكم آياته: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ).
أتوقف كثيراً أمام هذا التعبير القرآني للآية (44) من سورة الفرقان في تشبيه صنف من البشر كالبهائم ثم يجاوزه إلى أفضلية البهائم على أولئك. وعلى الرغم من أن الصنف المقصود من الناس هم كفار مكة كما هو متفق عليه في معظم كتب التفسير حيث يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية الكريمة: “(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة. (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)  إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام. وقال مقاتل : البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل : لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا.” .. إلا أن التشبيه القرآني لا ينسحب فقط على فئة من المعاصرين لنزول القرآن، وإنما لكل زمان طالما هناك من البشر من هم أضل وأجهل من البهائم. والكائن البشروبهيمي – إن صح التعبير – يملأ حياتنا بشكل مزعج، وله بالأحرى صور عدة تختلف باختلاف تفاعله وتعامله مع الآخر، ولكن تبقى صفة البهيمية المحددة والمميزة له عن سائر البشر الطبيعيين الذين خلقهم الله.
هذا الصنف من البشر لا يمكن لك أن تكتشف صفته البهيمية إلا بعد أن تتواصل معه سواء في العالم الواقعي داخل دوائر التفاعل المجتمعي كالعائلة، الجيران، زملاء الدراسة أو العمل، الأصدقاء، المعارف، .. إلخ، أو خلال العالم الافتراضي كشبكات التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثة على الإنترنت.
ونتيجة لحظي البائس – أو ربما هو قدر محتوم ومكتوب علّي – فقد تعثرت في صنوف متعددة من هذه الكائنات البشروبهيمية، فدعوني أصف لكم نماذج منها من واقع تجربتي البشرية المتواضعة مع تلك الكائنات.
♦ الصنف الأول: رغم حبه للدعابة وتميزه بخفة الظل وهو ما يجعل دائرة صداقاته واسعة، إلا أنه يؤذي مرؤوسيه بشدة ويتهرب من مسئولية قيادته عندما يُسَائْل عن المخطئ فيلقيها عليهم لأنه جبان، ولايتحمل المسئولية كرجل. هذا الصنف يتصف بالفجور في الخصام تماماً كما جاء في الحديث الشريف في وصف المنافق. هذا الصنف ومهما كان قربك منه وإعرابه لك عن مدى إعتزازه بصداقتك إلا أنه مع أول اختلاف لك معه يضع نهاية للصداقة والعشرة حتى وإن كنتما قد إقتسمتما طعاماً يوماً ما – خيانة العيش والملح – وبيده يضع مفترق طرق بلاعودة.
♦ الصنف الثاني: وهو أكثر حقارة من سابقه لأنه بذيء وسليط اللسان وأحمق، ناهيك عن ثقل ظله ويحسب نفسه من الظرفاء، وهو بالأحرى من المستظرفين. يكرهه الناس والحيوانات والطير والجماد وحتى ملابسه لا تطيق ريحه الثقيلة. تجد نفسه نشوتها حينما يبني سعادته على تعاسة الآخرين، فيسخر من هذا ويتهكم على ذاك ليشفي نفسه المريضة، ودون خجل من الله عز وجل فيما يرتكبه من خطايا في حق الناس، هو يعرف أنه جبان وأن سلطانه لن يتجاوز مرؤسيه أو من يخافون بطشه ليمارس عليهم استظرافه ليمنح لنفسه بهجة زائفة وللمحيطين من حوله، وإن حاول أحدهم أن يرده عن حقارته تلك يغضب منه ويخاصمه، وإذا خاصم فجر أيضاً. هذا الصنف التعس يعاني من مرض عضال من أمراض العصر، إنه مرض “إزداوجية المعايير”، فالناظر إليه يجده مثالاً للتدين والصلاح والإلتزام بالعبادات مثل حرصه على إقامة الصلاوات اليومية بالمساجد ويطلق لحيته وينهر كل من يصادفه يستمع للأغاني ويزايد ويطيل في الحديث حتى يصدق نفسه، ولكنه عندما يرى امرأة لا يستطيع أن يكبح جماح نفسه فيسيل لعابه ويفترسها بعينيه دون خجل أو خشية من الله سبحانه وتعالى.
♦ الصنف الثالث: هو صنف الشاب الجاهل الجهول الذي لايختلف عن سابقيه إلا في المرحلة العمرية، فهما في أواسط العمر حيث يتعدون العقد الخامس بينما هذا الصنف لا يزال في العقد الثالث. هذا الصنف لا يقل دنائة أو حقارة عن سابقيه، إلا أن صغر سنه وقلة خبرته تجعله أحياناً متسرعاً في تصرفاته، أهوجاً وأرعناً لاسيما إذا كان جاهلاً وجهولاً.
رغم أن لكل صنف من الكائنات البشروبهيمية صفات تمايزه عن غيره من أقرانه إلا أن هناك صفات مشتركة كما تم ذكرهم بالآية الكريمة، وهي أنهم لايسمعون صوت الحق وإنما صوت أهواء نفوسهم المريضة، ومن ثم فهم لايعقلون لأنهم يحرمون عقولهم من تلقي العلم والمعرفة، فيتوقف العقل عن أداء دوره الذي خلقه الله وميز به البشر عن سائر المخلوقات.
أكون مجافياً للواقع إذا ما اكتفيت بعرض تلك الصنوف الثلاثة السابق ذكرها، فالأمر يحتاج لمزيد من التوضيح وضرب الأمثال للإلمام بجميع الأوجه المُشًكِّلَة للكائن البشروبهيمي وصنوفه العديدة التي تزيد عن الثلاثة التي ذكرتها، وقد يستغرق الأمر كتاباً لتحديد هوية هذا الكائن. وما كان هذا العرض التقديمي البسيط إلا لتوضيح ما أعاني منه من تلك الأشباه البشرية الغير مكتملة الوجود الإنساني. ولكن ما يهمني هو كيفية تخلص مجتمعنا من هذه العلل وأعتقد – من وجهة نظري المتواضعة – أن البيئة الصالحة لنشوء هذه الكائنات إذا ما تم تجفيفها فخلال سنوات لن تجد الأجيال القادمة بينها مثل هكذا آفات بشرية وسيتعافى مجتمعنا منهم إلى الأبد. أول أسباب – وقد يكون أهمها – تكوين هذا الكائن هو التنشئة الإجتماعية التي يُشَرِّبْ فيها الوالدان الجهل شرباً لأبنائهما، وثانيهما هو التعليم الأساسي المتردي الذي يقتل وعي الأطفال التي فطر الله عليها عباده ويبدله بمشروع كائن بشروبهيمي لاسيما أن التنشئة السابقة على مراحل التعليم تعزز من استعداد الطفل ليحيد عن إنسانيته ويشرع في التحول إلى بشروبهيمي.
رهاني على الزمن وتفاؤلي يزيداني ثقة في أننا سرعان ما ستنقرض هذه الكائنات وسيتخلص مجتمعنا والأجيال القادمة من غباء وحمق وجهل هذه الكائنات البشروبهيمية.